تراث دارفور .. لعبة (( الهجوري ))
بقلم / شريف آل ذهب
shrifdahb@yahoo.co.uk للذين يتابعون حلقات (( شرح المفردات العامية للقصيدة الدارفورية)) أعدهم بالمواصلة فيها حالما يردني النص كاملاً من ذوي الشاعر كما أسلفت بذلك .
وحتى لا ينقطع التواصل بيننا فسوف نواصل في ذات السياق لنناول الرقصات و الألعاب الشعبية في دارفور فنتحدث في هذه الحلقة عن لعبة الهجوري وهي لعبة محلية واسعة الانتشار في دارفور من الفاشر شمالاً حتى الطينة وكذلك في بعض مناطق شرق الإقليم .
وهي لعبة احتفالية كسائر الرقصات الشعبية المرتبطة بالأفراح الخاصة والعامة كالزيجات والعيدين وأعياد لحصاد وغيرها .
صفة الهجوري :
هو نوع من القفز العالي المتناسق ، حيث تقف الفتيات متراصات في صفٍ على ناحية يتغنين بنوع خاص من الغناء مع التصفيق بإيقاع متسق ، بينما يصطف الفتيان في المقابل مصدرين أصواتاً معروفة تسمى (( العزف )) أو المشكار " من الشكر "، ثم يخرج شاب أو أكثر من الصف ويعّين كل منهم رفيقته فيقف بحذوها (( ويضرب سَكّة )) والسَكّة هي ضرب أحد القدمين بالأرض ، تنبيهاً للفتاة المحددة ثم يباشر الفتيان بالقفز إلي أعلى أولاً ، فتخرج البنت المعينة وتقفز أمامه بنفس الإيقاع دون أي خلل ، وأحياناً يتفنن بعض الشبان المهرة في اللعبة بالتصفيق مع النط ، وهكذا تستمر اللعبة إلي نهاية الحفل .
وتعد صيغة القفز في نطة الهجوري من أصعب صيغ القفز عما سواها من أنواع الألعاب المشابهة لأنها تعتمد على رزم معين تشبه تحديداً قفزة الغزلان الجافلة من الفريسة عندما تكون داخل الحشائش الكثيفة حيث تقفز عالياً بإيقاع سريع ، بينما بقية الصيغ إما أن تكون خفيفة كما في نطة (( الدُكّي )) في منطقة فروك تحديداً (( تقع فروك شمالي كتم وتخضع إدارياً لمحلية الدور ريفي كتم )) ، والدُكّي أشبه بالهجوري من حيث الشكل الكلي للعبة وتختلف معها فقط في الإيقاع ، وهناك ((المندويس )) وهي تطة العجائز وتكون كذلك عالية ولكن بإيقاع ثقيل نوعاً ما كما في (( القتقنق )) عند قبائل المساليت والقنقنق هي النقارة أي الطبل ، وكذلك النطة المنفردة عند بعض القبائل في شرق وشمال السودان .
وبذكر الهجوري فلابد لي هنا أن أشيد بالفنان الشاب عادل منصوري الذي قام بتوزيع غناء الهجوري بشكل رائع جداً (( جافوني بلا جنية سميحونة الله ليّ ، كيف سواه أم جزائم جزوها لشايب كيف سواه ، مريم بني سلطان قلبي ليك سرمان وغيرها .. )) وقد شاهدته ذات مرة يغني في إحدى حلقات تلفزيون السودان وهو يومئ بالقفز ولكنه لم يفعل ، وليته فعلها حتى يرى الناس كيفية نطة الهجوري .
المدا :
المدا أو المدى وهي ساحة واسعة مستوية تخصص للعب ، ويراعى فيها أن تكون في منطقة وسطى بين القرى والفرقان المجاورة حتى يصل إليها الفتيان والفتيات من كافة القرى ، ولا تستخدم المدا إلا في المناسبات الخاصة بها كالعيدين مثلاً أو عند الفراغ من الحصاد و حديثاً في أيام العطلات المدرسية للطلاب من الجنسين . أما في الاحتفالات الخاصة كالزيجات وغيرها فتقام الحفل في داخل بيوت أصحاب المناسبة ذاتها .
غناء الهجوري :-
تقول إحدى شاعرات الغناء الشعبي في دارفور عن لعبة الهجوري :
نقعد في شارع لمن دمي يجاري *** خلي نكورك لمن نلقى هجوري
لمن دمي يجاري : أي حتى تتصفى دمي .
نكورك : من الكوراك.. وهو البكاء مع الصياح .
وهذه الفتاة هنا تعبّر عن مدى عشقها لهذه اللعبة الشعبية ، لذلك فهي تود أن تعتصم في الشارع العام حتى تتصفى كل دمائها وهي تبكي إلي أن تجد الهجوري !!
ولهذا البيت مدلولان : فإما أنها من الفتيات المحرومات من طرف أسرهن للخروج إلي (( المدا)) مكان لعب الهجوري لذلك فهي تعّبر عن احتجاجها بهذه الكيفية . أو أنها اغتربت إلي مكان بعيد ليس فيه هجوري .
وغناء الهجوري كغيرها من أشكال الغناء الشعبي قد تناولت أوجه مختلفة من جوانب حياة المجتمع حيث تناولت الفروسية ، فتغنوا للفرسان والجيش (( ديل عساكر الحربية اللابسين العباية )) وتناولت الحكومة المركزية عبر مختلف حقبها (( إبراهيم عبود غلب التجار كيف سواه )) ، (( مايو مايو الليلة ثورة مايو )) وتناولت مراحل تدهور العملة حيث كانت فئة الخمسة جنيهات (( أم حديقة الحيوانات )) لها صيتها (( خمسة جنيه لفوه سجار الليل بوبي نسير معاك )) ، (( خمسة جنيه محله وين شالوا سمحة كفوها بدين )) ثم بعد أن تدهورت قيمتها فصارت بقيمة الطرادة أي الورقة فئة الخمسة وعشرين قرشاً (( خمسة جنيه طرادة الما بجيب الرادي )) أي أنها صارت أقل من قيمة الراديو والراديو تبعاً المسجل ماركة ناشيونال ؟؟ وكما تناول غناء الهجوري كذلك فتيان المجتمع في عصرهم ، وهم رعاة الإبل (( اللابسين الكبوت ديل الجمالة جو مويه بريحة نسقي الأبالة ديل )) والكبوت معروف وهو للبرد ، وشرح البيت كالتالي : أولئك الفتيان الذين يرتدون الكبابيت هم الأبالة وقد قدموا إلينا، عليّ بماء معطرة كي أسقيهم بها !! وهي مكانة ما بعدها مكانة .
وقد تغنت الفتيات لاحقاً للطلبة حينما صاروا هم فتيان المجتمع والمدا بشكل خاص (( هجوري الجنن الجهال ** طلبة سكونهم هنا )) . وهكذا كان المدا يشكل محفلاً اجتماعياً يجتمع عليه الشبان بمختلف أعمارهم من مختلف القرى ثم ينصرفوا بكل أبدب عقب انقضاء الحفل إلي منازلهم فرحين يرقبون الفجر الذي لم يكن قد تبقى منه الكثير ، فنجم الفجر قد لاح في الأفق (( نجم الصباح شقّ و راح حبيبي وين نمشوا سوا )) . وقد ينال البعض العلقة إذا لم ينهض ليشهد صلاة الفجر مع الوالد ، هذا إذا تمكّن من دخول البيت أصلاً حيث الأبواب تكون قد أوصدت جيداً وأي حركة لفتح الباب سننبه الشايب الذي يكون قد فرغ من أوراده وتوضأ متهيئاً لصلاة الفجر ، كما كان في حال والدنا رحمة الله عليه رحمة واسعة . نواصل بإذن الله .
( منقول )